بقلم: محمود توفيق أبوعريشة
انجرف الظلام ليغمر منعطفات الطريق..وتعالى صمت القمر حتى فقدت عيوننا حاسة السّمع!..فوقفنا مشدوهين أمام سُلطته كما في كل مساء نبادله اللعنة.. رقيقٌ هو القمر كيف ينتصب في محراب السماء المطلة على الطريق... لكننا اعتدنا أن نلعن السُّلطة..!
ما أن تمتطي الآصال أديم السماء حتى يبدأ الزبائن بالتذامر مع النسيم إلى أحشاء الحانة الواقعة على حافة الطريق، فتعج برنين الكؤوس وخرير الرشفات وضحكاتٍ صاخبةٍ لا تتوقف.. دخلتُ الحانة استعداداً لهبّة المساء تاركاً خلفي بلها كثر متفرسين بالقمر.. أكملت تلميع الكؤوس.. وضبت الكراسي، ثم نظفت الطاولات وسبقتني إلى موقعي في الجانب الداخلي للبار تنهيدة..رتبت تضاريسي على المقعد المستدير.. هناك حيث اعتادت أن تراني.. وحيث ظننت يوماً أنني أتقن تجاهلها..
دخلتْ.. بكامل نضوجها.. وبملامح الغربة الساكنة في تقاسيم وجهها..تتقدّمها شفتاها البارزتين وشالٌ يحيط عنقها الأسمر الطويل..وكعادتها تربعت كرسيها المعهود في الزاوية اليسرى للبار.. ألقت بإحدى قديميها اليافعتين على الأخرى.. نصبت يديها على الطاولة ثم أطاحت برأسها على كفيها.... وأسهبت بالنظر إلي... لم أخاطبها أو تخاطبني يوماً. بل أمضينا السويعات اليومية في قراءة الصمت في ملامحنا..وأتقن الصمت كتابتنا على جبهاتنا فلذنا به.لكن شيئاً اختلف في هذا اليوم.. شيءٌ لا أعرفه يجول وجهها وذهنها..شيء يخيفني.. يرعبني..يزلزلني!.. كان لا بد أن أعرف ما بها...كان لا بدّ أن أكلمها.. كان لا بدّ أن اكسر حاجز البكم الذي صنعناه.. لكن لا .. ومن أكون أنا لأخاطبها..؟ وكيف ذلك وقد وعدت نفسي ألا أنساق لأي فتاةٍ بعد حبي الأول... لكنها اختصرت لي الطريق وأسلفت:
- كأس لو سمحت..
كأس؟! كيف!.. لا بدّ أني أخطأت السّمع!..هي مثلي لا تشرب!..ولا تؤمن أن المشروب هو ترياقٌ للألم.. أقصد هي لم تشرب أبداً منذ أن دخلت للمرّة الأولى هذه الحانة.. حتى أنها..حتّى أنها لم تطلب شيئاً بل قد اعتدتها أنثى صامتة..!!!..فماذا بحق السماء يجري الآن؟
مزجت لها ويلازمني ضربٌ من الصدمة..سلبتني الذكرى لهنيهات.. أخذتني إلى حيث رفضت تكراراً.. إلى اللحظة التي ارتشفت فيها جرعة الموت فلاقاني على عتبة الرّدى بلسم الحياة وغاص في تضاريسي... لم أك أعلم أني قد أخاف الذكرى يوماً.. ولطالما شعرت أن محبوبتي ترافقني رغم أنها وبعدما وهبتني روحها واقيةً إياي من رصاص الاحتلال أضحت جسداً بالياً تحت التراب.. لكني لطالما آمنت بطبقية الموت وأن الأنا هي جسدٌ نفسٌ وروح...جسدٌ تحت الثرى.. ونفسٌ على الأرض.. وروحٌ في السماء...إلا أن تلك النفس ما عادت تشايعني مذ أن رأيت هذه الفتاة تمرّ من أمام الحانة... أحببتها لكن ليس من النظرة الأولى!.. إنما من همسة الصمت الأولى!!... بهرني الصمت في ملامحها.. وما عدت أرى على الغبراء إلاها.. تتبعتها بناظري فوجدتها كالكثيرين تحضر الطريق لتجلد القمر باللعنة ... التقينا هناك فاعتدنا أن نقرع نخب الصمت سويةً... وسرعان ما بدّدت نظراتنا حواجز العجاج من بيننا..
- الكأس. الكأس امتلأت!! ما بك!!
صدني صاحب الحانة ورئيسي في العمل..ابتسمت هي.. لكنها ابتسامةٌ غير مألوفة..أصرّيت على أن هنالك أمرٌ غريب.. مزجت لها آخراً وقدّمته لها..فأردفت وكأنها تعتصر أفكارها فتقطرها مالحةً على جرحها الذي لم يندمل....:
-هل ترى هذه الكأس...؟
تلولبها.. وكأنها تقرأ القدر في ترنحات الزبد.. ثم تكمل:
-مذ ولدنا وينصحوننا بالنظر إلى الجزء الممتلئ فيها.. لطالما عجبت.. كيف لا.. وقد ولدنا وفوهات كؤوسنا تنزف.... ولذلك لطالما تقت إلى فراغٍ فيها..ففيما تستبطنه كؤوسنا لا شيء قد يسلبك إلى حيث تحلم..
تناولت الكأس حتى وصلت قشرة شفتيها.. وأنا كلي اندهاشٌ...أمالتها نحوهما.. ثم أزاحتها عن شفاهها وألقتها أرضاً ثم أردفت:
- لم أطلب الكأس لأشرب.. فأنا كما أنت واثقٌ لا أشرب..هل ترى الآن ما حصل...؟ تكسّرت الكأس.. هكذا هو مصير الكؤوس الممتلئة جميعها.. لا بدّ أن تتكسر يوماً.. انظر إلى شظاياها هي لا شك تجرح!!..
-
لملمت سُعفها بعدما بعثرتها رياح الوجع.. وخرجت مهرولةً من الحانة.. لم أفكر وركضت خلفها مباشرةً.. لحقتني صرخاتٌ جهلت مصدرها.. أوقفتها غصباً عند ناصية الطريق على بعد ديكامترات من الحانة..فنبست محاولةً التخلص من قبضتي...
-أتيت الحانة اليوم لأودّعك.. ولم أنجح في أن أودّعك كما وودت..
- لا تودعينني فإنني أخشى الفراق!..
ذبلت بين أضلاعي بمعطفها الأخضر العشبي.. وبوجنتيها الحمراوتين اليانعتين.. فعدنا لممارسة عادتنا السريّة.. صمتنا.. وطلت الدموع ثملةً تتمختر من خلف قضبان مقلتيها لتصبغ سكوتها بحرقةٍ قتلتني..حاولت أن أعرف سبب ألمها.. إلا أنها رفضت وأصرت على الفُراق.. لكني أدركت ومنذ اللحظة الأولى أن ألمها فلسطيني المجرى وصهيوني المنبع... أمضينا سويعاتٍ طويلةٍ محدّقين بأنفسنا لا نرى ثالثاً حولنا إلا الغاسق شاهد الصمت وحامل اللعنة...
**
استفقت من نومي على صوت الهاتف الذي تزامن وصريرٍ خافتٍ للباب عقبته طرقة- بعدما بدّل آذار ثوب الليل واعترت ملامحه إشراقة الصباح- نظرتُ إلى جانبي فلم أجدها في السرير..أجبت الهاتف على عجلٍ..وكان صاحب الحانة على الخط.. استأذنته بأني مشغول.. فردّ بأنني فصلت من العمل بعدما تركت الحانة أمس.. لم أعر ذلك انتباهاً وركضت نحو الباب.. لكنها كانت قد غادرت..عدت شقتي مطأطأ الرأس يسبقني زفيري...انتبهت أنها قد علقت على ظهر الباب رسالة!... قطفتها مسرعاً... وقرأت ما كتبت:
- ((لقد كان أجمل فراقٍ عرفته..
لن أنسى عينيك أبداً,,,
حبيبتك...
القدس....
سلوان...))
مضغت الورقة بين يديّ.. ثم ألقيتها غاضباً إلى سلة المهملات..طرحت نفسي على الفراش أتحسس الموضع الذي اضطجعتْ فيه.... لكن لحظة؟! ماذا قصدت بتوقيعها... القدس سلوان..... أخرجت الورقة مسرعاً من سلّة المهملات وأعدت قراءة الكلمات الثلاثة الأخيرة... سلوان؟؟ أليس ذلك هو الحي المقدسي الذي باشرت سلطات الاحتلال في هدم بيوته...؟ لا بدّ أن ذلك هو العبء الذي يثقل على كاهلها.. لا شك أن بيت عائلتها قد هدم.. لكن لماذا اختارت أن تفارقني؟.. هي لا شكّ تعرّض الآن نفسها للخطر!!!.. خرجت من المنزل مهرولاً.. حافي الصدر وعاري القدمين حاملاً نعليّ بساعدي.ولم أفكّر في مصيرها بقدر ما فكرت بمحبوبتي السابقة.. شعرت أن المسرحية ذاتها يعاد عرضها على شاشة الحياة...شعرت أن تلك النفس التي هجرتني عادت لتطاردني ثانيةً.. وأنها حملٌ ثقيل يرهق صدري الضيّق الذي يعجز عن حضن حبين ووفاء في آنٍ معاً...... شعرت أن الأرض تدور من حولي..وأن خفق النعال الذي يكتنفني صخبٌ جداً.. وأن العرق يغمرني حتى يكاد يغرقني في تموجاته..... وأن الأمكنة أضحت جميعها مليئةٌ بطبقاتٍ من الضباب..حتى الناس أصبحوا غير مرئيين.. السيارات متموجة.. وأصوات أبواقها عالية جداً!!!...الشمس تحدّق بي بوقاحة.. وسناها الجريء يلكمني..واصلت الجري مترنّحاً كالثمل بكامل ما تبقى بي من طاقة...حتى نفذت....
كان لا يزال وجه السماء ممتقعاً عندما استفقت من اغمائتي.. الشمس تفقأ عيني وتخرشم ذقني.. والغيوم القليلة في الزوايا واجمةٌ لا تبرح مكانها في خارطة السماء..الهواء خشنٌ كرؤوس المسامير.. وفوضى عارمة من حولي يصدرها جمهورٌ يكتنفني من كل جهة.. نهضت مسرعاً وشكرت الله أن اغمائتي لم تطل إلا لهنيهاتٍ قليلة.. صرخت في الناس أن يفسحوا لي الطريق وتابعت الركض إلى أن وصلت محطة القطار..وهناك علمت أن القطار الأول إلى القدس سينطلق بعد برهات.. هرولت إلى القطار مسرعاً... توجهت إلى مقطورة الجنود فيه.. أردت أن اطلب منها أن تبقى لأجلي وأن لا تموت لتنتقم..أردت أكثر من أي وقتٍ مضى أن أعانقها وأحدثها..وددت أن أطلب منها أن نمتشق حبنا حساماً في وجه الألم...وأن لا ننظر في كؤوسنا يوماً فلا تتكسّر ..وأن لا نقرع ناقوس الذكريات..فلا نتذكّر... وأن نعيش وحيدين والقمر واللعنة.. أردت أن أخبرها أني سأعتصر الحجارة لأروي شفتيها الصديانتين.. وأني سأنبش قبر البهجة لأسعدها.. وأني وأني وأني وأني.....
لكني لم أجدها هناك.. في مقطورة الجنود...
أكملت عبور القنطرة مطأطأ الرأس منحني الجبين..أفكاري تقدح زند القلق فتتلظى ألسنة الرهبة في رأسي ويساورني سبطٌ من الأرق.. وبينما أنا في طريقي حدب باب القطار... رأيتها... رأيتها بكامل تفاصيلها.. شعرها الأسود القصير..عينيها اللوزيتين..رموشها الطويلة..مآقيها الدهماء..وانحناءاتها اللولبية..
شفاهها تغص في شفاهِ آخرٍ..ولسانها يعانق لسان آخرٍ..صدرها الصاخب الذي تحسده معالم الزبى ينتفض على صدر آخر.. كاعبيها يلاصقان كعبُ آخر..شعرت أني أختنق وأن عنكبوتاً ينسج مشنقة الذل حول عنقي وفي لحظةٍ من الفراغ التفكيري قتلتها.. قتلتها نعم لكن لا أدري كيف قتلتها لكني فعلت.. واستفقت إلى وعيي وأنا بين تباريح صدرها أعانقه.. ويحضننا الموت... وتحيطنا اندهاشاتٌ وابتهالاتٌ وأزيز لعنة القمر الغائب ترافقنا...
قالت لي مرّةً أن الكأس الممتلئة لا بد تنكسر...وأنها إن انكسرت تجرح... في السجن أمس قدّموا لنا صحيفة.. سارعت بانتشالها من بين جثثٍ كثيرة رائحتها نتنة..لا عجب ففي السجن كلنا جثث ننتظررحمة الدفن..قلبت الصحيفة عجلاً فرأيتها تتربع هودج الصفحة الأولى:
طالبة مقدسية هدم بيت والدها في سلوان تنكّرت لبياعة هوى وخططت لانفجارٍ كبير فقتلها مجنون...
ثق بالقدر.. واستجب لنداءاته وصمته..واحذر لعنة القمر فهي تلاحقك...
انتهى...
((مسودة))
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق